فصل: وَدُونَ ثُلْثِ إنْ يَكُنْ ما اسْتُثْنِي *** بِعَدَدٍ أوْ كَيْلٍ أَوْ بِوَزْنِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة ***


من صوف، أو تعجيل هروي في مروي أو مرويين فأكثر ‏(‏فما تفاضل أنف‏)‏ أي منع كما لا يمنع التماثل بالأحرى إذ لا موجب للمنع مع اختلاف الجنس، وهاتان صورتان من الأربع الباقية‏.‏ ثم أشار إلى مفهوم قوله‏:‏ وتختلف أجناسه وفيه صورتان وبهما تتم الصور الثمان فقال‏:‏

وَالْجِنْسُ مِنْ ذَاكَ بِجِنْسٍ لِلأَمَدْ *** مُمْتَنِعٌ فِيهِ تَفاضُلٌ فقدْ

‏(‏والجنس‏)‏ أي وبيع الجنس ‏(‏من ذاك‏)‏ المذكور من العروض ‏(‏بجنس‏)‏ مماثل له ‏(‏لأمد‏)‏ أي لأجل‏:‏ ‏(‏ممتنع فيه تفاضل فقد‏)‏ فحسب أي لا غير كثوب من حرير معجل في ثوبين منه إلى أجل للسلف بمنفعة وعكسه لضمان بجعل، ومفهوم تفاضل أنه مع التماثل كثوب من صوف معجل في ثوب مثله، ولم يشترط عليه أجود من المعجل ولا أدنى جائز لأنه محض سلف، ثم استثنى من منع التفاضل في الجنس الواحد فقال‏:‏

إلاّ إذَا تَخْتَلِفُ المنافِعُ *** وَمَا لِبَيْعٍ قَبْلَ قَبضٍ مَانِعُ

‏(‏إلا إذا تختلف المنافع‏)‏ كسيف قاطع معجل في اثنين دونه في القطع والجوهرية إلى أجل، وكجذع من الخشب طويل غليظ معجل في جذع أو جذوع صغار إلى أجل، وكثوب غليظ من الكتان معجل في ثوب رقيق منه إلى أجل، أو غزل غليظ في رقيق من جنسه وبالعكس فإن ذلك كله جائز لاختلاف المنفعة لأن اختلافها يصير الجنس الواحد كجنسين، ولا يدخل في النظم هنا بيع صغير بكبير من جنسه وعكسه إلى أجل، لأن الكلام في العروض لا في الحيوان ‏(‏وما لبيع قبل قبض مانع‏)‏ مبتدأ والمجرور قبله خبره، والمعنى أنه يجوز بيع العروض قبل قبضها كان المعجل فيها عرضاً أيضاً أو دراهم أو حيواناً أو طعاماً من بيع أو سلم بخلاف الطعام، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه مطلقاً حيث كان من معاوضة لا من قرض فيجوز نقداً فقط وظاهره أنه يجوز بيع العرض قبل قبضه لمن هو عليه ولغيره نقداً وإلى أجل قبل حلوله وبعده وليس كذلك بل فيه تفصيل، فإن كان لمن هو عليه فيجوز بعد حلول أجله وقبله بشرط أن يكون الثمن المأخوذ في العرض نقداً وأن يكون مما يصح بيعه بالثمن المعجل في العرض المذكور فإذا عجل دراهم أو حيواناً في ثوب من صوف لأجل مثلاً، فيجوز أن يأخذ عن الثوب بعد الحلول أو قبله ثوباً من كتان وحرير لا دنانير أو لحماً غير مطبوخ من جنسه لما فيه من الصرف المؤخر فيما إذا كان المعجل دراهم والمأخوذ دنانير وبالعكس، ولما فيه من بيع اللحم بالحيوان فيما إذا كان المعجل حيواناً والمأخوذ لحماً من جنسه وبالعكس، وقولي نقداً احترازاً مما إذا كان لأجل فإنه لا يجوز لم فيه من فسخ الدين في الدين حيث كان المأخوذ أكثر مما في الذمة أو من غير الجنس فإن كان مثل ما في الذمة جاز بعد الأجل ولا إشكال لأنه قضاء عما فيها وكذا قبل الأجل حيث كان القضاء في محله أي بلده لا إن كان بغير محله فلا يجوز، وإن حل لما فيه من سلف جر نفعاً لأن المعجل قبل البلد يعد مسلفاً كالمعجل قبل الأجل فقد انتفع بإسقاط الحمولة عنه‏.‏ هذا محصل ما أشار له ‏(‏خ‏)‏ في آخر السلم بقوله‏:‏ وبغير الجنس إن جاز بيعه الخ‏.‏ وبقوله قبله وجاز قبل زمانه قبول صفته فقط كقبل محله في العرض‏.‏ الخ‏.‏ وهذا كله فيما إذا باعه لمن هو عليه، وأما إذا باعه لغير من هو عليه فيجوز قبل الأجل وبعده أيضاً بشرط أن يكون الثمن نقداً لا مؤجلاً فيمنع مطلقاً لأنه من بيع الدين بالدين، وأن يكون من هو عليه حاضراً مقراً وبيع بغير جنسه وليس ذهباً بفضة ولا عكسه، وليس بين مشتريه وبين من هو عليه عداوة ولا قصد إعانته كما أشار له ‏(‏خ‏)‏ أيضاً بقوله‏:‏ ومنع بيع دين ميت وغائب ولو قربت غيبته وحاضر إلا أن يقر الخ‏.‏

وَبَيْعُ كُلَ جَائِزٌ بالْمَالِ *** عَلَى الْحُلُولِ وَإلى الآجالِ

‏(‏وبيع كل‏)‏ من العروض ‏(‏جائز بالمال‏)‏ من الذهب والفضة والحيوان العاقل وغيره، وأما بيعه بعرض آخر فهو ما قبله ‏(‏على الحلول وإلى الآجال‏)‏ المعلومة غير البعيدة جداً كالسبعين والستين سنة كما مرّ عند قوله‏:‏ بأضرب الأثمان والآجال الخ‏.‏

وَمَنْ يُقَلِّبْ مَا يُفيتُ شَكْلَهُ *** لَمْ يَضْمَنْ إلاّ حَيْثُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ

‏(‏ومن يقلب ما‏)‏ أي فخاراً أو زجاجاً أو سيفاً أو دابة ونحو ذلك ‏(‏يفيت‏)‏ بضم الياء مضارع أفات، وفاعله ضمير التقليب ومعنى الإفاتة الهلاك ‏(‏شكله‏)‏ مفعوله ‏(‏ ولم يضمن‏)‏ ما سقط من يده حين التقليب فانكسر، أو ماتت الدابة حين الركوب ‏(‏إلا حيث لم يؤذن له‏)‏ في التقليب المذكور والركوب ونحو ذلك أما مع الإذن نصاً فلا ضمان عليه فيما سقط من يده، وإنما يضمن ما سقط عليه لأنه خطأ وهو كالعمد ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وضمن بسقوط شيء من يده عليها الخ‏.‏ وأما مع الإذن حكماً كأن يقلبها وصاحبها ساكت ينظر‏.‏ فقولان مشهوران مبنيان على أن السكوت هل هو إذن أم لا‏؟‏ أرجحهما أنه ليس بإذن قال في إيضاح المسالك، قال ابن رشد في كتاب الدعوى‏:‏ والصلح من البيان لا خلاف أن السكوت ليس برضا لأن الإنسان قد يسكت مع كونه غير راض، وإنما اختلف في السكوت هل هو إذن أم لا‏؟‏ ورجح كونه ليس بإذن اه‏.‏ ابن سلمون‏:‏ ومن أخذ قوساً أو سيفاً أو آنية ليقلبها فانكسر القوس أو السيف عند الرمي به أو الفخار، فإن كان ذلك بإذن صاحبه فلا شيء عليه، وإن كان بغير إذنه فهو ضامن، وكذلك الدابة‏.‏ قال أصبغ‏:‏ وكذلك إن أخذ الفخار وصاحبه يراه وإن لم يأذن له وسقط وانكسر فلا شيء عليه، وروى عيسى عن ابن القاسم في ذلك أنه ضامن إلا أن يأذن له اه‏.‏ وما رواه عيسى هو الذي رجحه ابن رشد كما مرّ، وكذلك يضمن إن سقط من يده عند التقليب بسبب تغريره كأن يرفع القلة الكبيرة من أذن واحدة أو بأصبع واحد فتنكسر ويضمن ما سقطت عليه على كل حال فإن ادعى عليه رب الزجاجة ونحوها حيث أذن له في تقليبها أنه تعمد طرحها أو فرط حتى سقطت فعليه اليمين فإن نكل غرم بمجرد نكوله لأنها يمين تهمة‏.‏

وَالبَيْعُ جَائِزٌ عَلَى أَنْ يَنْتَقِدْ *** في مَوْضَع آخَرَ إنْ حُدَّ الأَمَدْ

‏(‏والبيع جائز على‏)‏ شرط ‏(‏أن ينتقد‏)‏ الثمن أو المثمن ‏(‏في موضع‏)‏ أي بلد ‏(‏آخر‏)‏ غير بلد العقد ‏(‏إن حدّ الأمد‏)‏ أي الأجل وإلاَّ لم يجز، قال في التهذيب‏:‏ ومن باع سلعة بعين على أن يأخذه ببلد آخر فإن سمى البلد ولم يضرب لذلك أجلاً لم يجز، وإن ضرب لذلك أجلاً جاز سمى البلد أو لم يسمها، فإن حل الأجل فله أخذه بالعين أينما لقيه، وإن باع السلعة بعرض وشرط قبضه ببلد آخر إلى أجل فليس له أخذه به بعد الأجل إلا في البلد المشترط فإن أبى الذي عليه العرض بعد الأجل أن يخرج إلى ذلك البلد أجبر على أن يخرج أو يوكل من يخرج فيوفي صاحبه اه‏.‏ وحاصله أن الأجل لا بد منه كما قال الناظم‏:‏ سواء كان البيع بالعين أو بالعرض إلا أن شرط قبض العين ببلد آخر ملغى غير معتبر بخلافه في العرض فإنه معتبر، وظاهر النظم كان الأجل نصف شهر أو أقل أو أكثر وهو كذلك لأنه سلم فلا بد أن يكون أجله نصف شهر فأكثر ‏(‏خ‏)‏‏:‏ إلا أن يقبض ببلد كيومين إن خرج حينئذ ببر بغير ريح، فيجوز أقل من نصف شهر بالشروط المذكورة‏.‏

تنبيه‏:‏

ما مر من أنه لم يضربا لذلك أجلاً فسد البيع حكى عليه عياض الاتفاق كما في ابن عرفة، ثم ذكر عقبه عن اللخمي أنه إذا قال‏:‏ أشتري منك بالعين لأقضي بموضع كذا لأن لي به مالاً وإنما معي ههنا ما أتوصل به لذلك الموضع أو ليس معي ما أقضي به ههنا إلا داري أو ربعي ولا أحب بيعه لم يجبر على القضاء إلا بالموضع الذي سمى، ويجوز البيع وإن لم يضربا أجلاً كمن باع على دنانير بأعيانها غائبة، وإن شرط البائع القبض ببلد معين لاحتياجه فيه لوجه كذا فعجلها المشتري بغيره لم يلزم البائع قبولها لخوفه في وصولها إلى هناك، وقد اشترط شرطاً جائزاً فيوفي له به اه‏.‏ ونقله ‏(‏ح‏)‏ أول بيوع الأجل مستظهراً له قائلاً‏:‏ فيقيد به قول المتن في القرض كأخذه بغير محله إلا العين اه‏.‏ قلت‏:‏ وكذا يقيد به قول الناظم فيما مر وحيث يلغيه بما في الذمة يطلبه الخ‏.‏ وتأمل قول اللخمي‏:‏ ويجوز البيع وإن لم يضربا لذلك أجلاً‏.‏ وقوله بعد‏:‏ وإن شرط البائع القبض ببلد معين الخ‏.‏ فالظاهر حمل ذاك على ما إذا كان بصدد الذهاب للبلد المعين عن قرب وأن مسافته معلومة عندهما لئلا يؤدي ذلك للبيع بأجل مجهول فيخالف ما مرّ من الاتفاق والله أعلم‏.‏

وَبَيْعُ ما يُجْهَلُ ذَاتاً بالرِّضا *** بالثَّمَنِ البَخْسِ أوِ العالي مَضَى

‏(‏وبيع ما يجهل‏)‏ بالبناء للمجهول ‏(‏ذاتاً‏)‏ تمييز محول عن الفاعل ‏(‏بالرضا‏)‏ يتعلق ببيع وكذا ‏(‏بالثمن البخس أو الغالي‏)‏ وقوله ‏(‏مضى‏)‏ خبر عن بيع، والمعنى أن بيع الشيء الذي يجهل المتعاقدان أو أحدهما ذاته أي حقيقته المتضمن ذلك لجهل قيمته ماض لا يرد حيث سمياه أو أحدهما باسمه العام، سواء بيع ببخس أو غلاء كما لو قال البائع لشخص‏:‏ أبيعك هذا الحجر، أو قال المشتري‏:‏ بع مني هذا الحجر فيشتريه وهو يظنه ياقوتة أو زبرجدة فيجده غير ياقوتة، أو يبيعه البائع يظن أنه غير ياقوتة أو زبرجدة فإذا هو غير ذلك، فيلزم المشتري الشراء في الصورة الأولى، وإن علم البائع حين البيع أنه غير ياقوتة وكذا يلزم البيع للبائع في الثانية، وإن علم المشتري حين الشراء أنه ياقوتة لأن كلاًّ منهما سماه في القرض المذكور باسمه العام لأن الياقوت يسمى حجراً، وهذا إذا كان البائع أو المشتري غير وكيل، وإلاَّ لم يلزم البيع بلا نزاع، وأما لو سمي بغير اسمه العام بل باسمه الخاص أو بغير اسمه أصلاً كقوله‏:‏ أبيعك هذه الياقوتة أو أشتري منك هذه الزجاجة فتبين في الأولى أنها غير ياقوتة، وفي الثانية أنها ياقوتة، فللمشتري في الأولى القيام وكذا البائع في الثانية كما قال‏:‏

وَمَا يُبَاعُ أنه ياقوتَهْ *** أوْ أَنَّهُ زُجَاجَةٌ مَنْحوتَهْ

‏(‏وما يباع‏)‏ على ‏(‏أنه ياقوتة أو‏)‏ على ‏(‏أنه زجاجة منحوته‏.‏

وَيَظْهَرُ العَكْسُ بِكُلَ منْهما *** جَازَ به قيامُ مِنْ تَظَلَّمَا

ويظهر العكس بكل منهما جاز به‏)‏ أي بسببه ‏(‏قيام من تظلما‏)‏ أي شكا أنه مظلوم، وأنه لم يعلم بحقيقة ذلك وقت البيع فإن ادعى عليه العلم فعليه اليمين‏.‏ والفرق أن التسمية بغير اسمه مظنة الجهل به فكان له القيام بخلاف تسميته باسمه العام فإنها مظنة معرفته فلا يقبل دعواه خلافها لأنه خلاف الغالب وكان من حقه أن يتثبت لنفسه، والفرق بين حقيقة هذا البيع وبين حقيقة الغبن الآتي في فصله‏:‏ أن المبيع في الغبن معلوم في الحقيقة والاسم لكل منهما، والجهل متعلق بالقيمة فقط‏.‏ وهنا الجهل منهما أو من أحدهما تعلق بحقيقته، ولكن لما عبر عنها باسمه العام لم يصدق مدعي الجهل كما مر قال‏:‏ معناه ‏(‏ز‏)‏ ثم‏.‏ يبقى أن يقال ما الفرق بين الغلط والغبن على ما به العمل من وجوب القيام به كما يأتي‏.‏ فالجواب‏:‏ أن الفرق إنما يطلب بينهما لو اختلفا في المشهور أما حيث كان المشهور فيهما عدم القيام فلا، لكن ينبغي حيث جرى العمل بالقيام بالغبن أن يجري العمل بالقيام بالغلط أيضاً إذ كل منهما يتثبت بالسؤال لنفسه عن حقيقة الأمر، والخلاف موجود في الغبن والغلط كما في ‏(‏خ‏)‏ وغيره والله أعلم‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ قال ابن رشد‏:‏ واختلف فيما إذا أبهم أحدهما لصاحبه بالتسمية ولم يصرح فقال ابن حبيب‏:‏ إن ذلك يوجب الرد كالصريح، وحكي عن شريح القاضي أن رجلاً مر برجل معه ثوب مصبوغ بالصبغ الهروي فقال‏:‏ بكم هذا الهروي‏؟‏ فقال‏:‏ بكذا فاشترى، ثم تبين أنه ليس بهروي وإنما صبغ بالصبغ الهروي فأجاز بيعه قال عبد الملك‏:‏ لأنه إنما باعه هروي الصبغ حتى يقول هروي النسج فعند ذلك يرده‏.‏

الثاني‏:‏ قال مالك‏:‏ في البزاز يبيع ثوباً فيأمر بعض خدمته يدفعه إلى المبتاع أو يدفعه هو بنفسه ثم يقول بعد انصراف المبتاع‏:‏ إن الثوب الذي دفع إليك ليس هو المبيع، بل وقع غلط فيه قال‏:‏ إن كان أمر بدفعه حلف ورد ثوبه وإن كان هو الذي دفعه فلا قول له إلا أن يكون عليه رقم أكثر مما باع به أو شهادة قوم عرفوا ذلك‏.‏ انظر ‏(‏ح‏)‏ عند قول المتن ولم يرد بغلط إن سمي باسم الخ‏.‏

فصل في حكم ‏(‏بيع الطعام

حاصل حكمه أن بيع الطعام بالطعام بالتأخير ممتنع مطلقاً وهو قوله‏:‏

البَيْعُ لِلطَّعام بالطَّعَامِ *** دون تناجُزٍ مِنَ الْحَرَامِ

‏(‏البيع للطعام بالطعام‏)‏ حال كونه ‏(‏دون تناجز من الحرام‏)‏ كيف ما كان متماثلاً أو متفاضلاً ربوياً كقمح بفول أو شعير، أو غير ربوي كتفاح بمشمش، أو أحدهما كقمح بمشمش لحرمة ربا النساء فيه مطلقاً، ومفهوم قوله‏:‏ دون تناجز أنه إذا كان يداً بيد فإما أن يكون جنساً واحداً أو جنسين، وفي كل إما مثلاً بمثل أم لا‏.‏ فالجنس الواحد مثلاً بمثل كمد من قمح بمثله أو بمد من شعير هو قوله‏:‏

والبَيْعُ لِلصِّنْفِ بِصِنْفِهِ وَرَدْ *** مِثْلاً بِمِثْلٍ مُقْتَضَى يَداً بِيَدْ

‏(‏والبيع‏)‏ مبتدأ ‏(‏للصنف بصنفه‏)‏ يتعلقان بقوله ‏(‏ورد‏)‏ خبر أي ورد جوازه حال كونه ‏(‏مثلاً بمثل‏)‏ وحال كونه ‏(‏مقتضى يداً بيد‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح‏:‏ ‏(‏البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد‏)‏، ومفهوم مثلاً بمثل أنه يمنع التفاضل فيه، وهو معنى قوله بعد‏:‏ والجنس بالجنس تفاضلاً منع الخ‏.‏ لكن محل المنع إن كان مقتاتاً مدخراً وإلا فهو قوله‏:‏ وغير مقتات ولا مدخر الخ‏.‏ ومفهوم قوله هنا بصنفه أنه مع اختلاف صنفه يجوز وهو معنى قوله‏:‏ وفي اختلاف الجنس بالإطلاق الخ‏.‏ ومعنى الإطلاق فيه سواء كان مثلاً بمثل أم لا‏.‏ كان مقتاتاً مدخراً أم لا‏.‏ ربوياً أم لا‏.‏ وبهذا التقرير ينتفي التداخل والتكرار في كلام الناظم فقوله ههنا‏:‏ مقتضى يداً بيد هو موضوع هذا البيت والأبيات الثلاثة بعده‏.‏ أعني قوله‏:‏ والجنس بالجنس إلى قوله‏:‏ باتفاق، وحينئذ فكأنه يقول‏:‏ فإن لم يكن دون تناجز بل كان مقتضى يداً بيد فإن كان صنفاً بصنفه مثلاً بمثل جاز، وإن كان ليس مثلاً بمثل امتنع بشرط الاقتيات والادخار، وإن كان صنفاً بغير صنفه جاز مطلقاً مثلاً بمثل أم لا‏.‏ مدخراً مقتاتاً أم لا غير أن حقه أن يسقط قوله مع الإنجاز لأنه موضوع الأبيات الأربعة كما ترى كما أن حقه يؤخر عنها قوله‏:‏

والبَيْعُ لِلطَّعام قَبْل القَبْضِ *** مُمْتَنِعٌ ما لَمْ يَكُنْ عنْ قَرْضِ

‏(‏والبيع للطعام‏)‏ ربوي كقمح وشعير وزيت ولبن أو غيره كتفاح ورمان ‏(‏قبل القبض‏)‏ له بكيل أو وزن أو عد حيث اشترى على ذلك أو أخذ في صداق أو خلع أو في صلح عن دم عمداً، وفي كراء دابة أو في رزق قاض أو جند أو إمام مسجد أو مؤذن أو مدرس ونحو ذلك‏.‏ فكل ذلك ‏(‏ممتنع‏)‏ لا يجوز بيعه قبل قبضه بكيل ونحوه لا ممن هو عليه ولا من غيره، وسواء كان معيناً أو مضموناً في الذمة كطعام السلم لا إن وجب للمرأة في نفقتها أو نفقة أولادها فيجوز لها أن تبيعه قبل أن تقبضه من زوجها بكيل ونحوه، ولا إن اشترى جزافاً لأنه مقبوض بنفس العقد وليس فيه حق توفية، ولا إن أخذ عن طعام مستهلك عمداً أو خطأ فيجوز أيضاً ‏(‏ما لم يكن‏)‏ الطعام ترتب ‏(‏عن قرض‏)‏ وأحرى من هبة أو صدقة فيجوز لمن تسلف طعاماً أن يبيعه قبل أن يقبضه من مقرضه، ثم لا يبيعه مشتريه حتى يستوفيه لأن ضابط المنع أن يتوالى عقدتا بيع لم يتخللهما قبض، وكذا يجوز لمن اشترى طعاماً أن يسلفه لغيره قبل أن يقبضه هو من الذي باعه له ولكن لا يبيعه لمتسلفه ولا لغيره إلا بعد قبضه، وكذا يجوز لمن اشتراه أيضاً أن يقضي به طعاماً في ذمته قبل أن يقبضه من البائع أيضاً ولا يبيعه المقتضي له إلا بعد قبضه لئلا يتوالى عقدتا بيع لا قبض بينهما كما مرّ‏.‏ وهذه التي قبلها ليستا من البيع قبل القبض بل من السلف قبل القبض أو القضاء قبل القبض وكذا يجوز لمن سلف لغيره طعاماً أن يبيعه قبل قبضه من المتسلف، فهذه الفروع الأربعة لا يشمل كلام الناظم منها إلا الأولى والرابعة، وأما الطعام الهبة والصدقة فلا إشكال في جواز بيعهما قبل قبضهما من المواهب والمتصدق ثم لا يبيعه مشتريه إلا بعد قبضه أيضاً، وحيث جاز البيع قبل القبض فيما ذكر فلا بد من تعجيل الثمن لئلا يؤدي لبيع الدين بالدين وتجوز الإقالة والتولية والشركة في الطعام قبل قبضه لأنها معروف فاغتفر فيها ذلك‏.‏

ثم رجع الناظم لإتمام أقسام بيع الطعام مشيراً لمفهوم مثلاً بمثل في البيت الثاني فقال‏:‏

والجِنْسُ بالجِنْسِ تَفَاضُلاً مُنِعْ *** حَيْثُ اقْتِيَاتٌ وَادِّخَارٌ يجْتَمِعْ

‏(‏والجنس بالجنس‏)‏ أي وبيع الجنس بجنسه أي بصنفه كقمح بشعير لا مثلاً بمثل بل ‏(‏ تفاضلاً‏)‏ كمد قمح بمدين من الشعير ‏(‏منع حيث اقتيات‏)‏ وهو أن تقوم به البنية أي عنده لا به ‏(‏وادخار‏)‏ وهو أن يحبس ولا يفسد لمدة حدها بعضهم بستة أشهر فأكثر ‏(‏ يجتمع‏)‏ خبر عن اقتيات وادخار، وأفرد الضمير باعتبار ما ذكر، والجملة في محل جر بإضافة حيث إليها وجوابها محذوف للدلالة عليها أي منع بيع الجنس بجنسه متفاضلاً حيث اقتيات وادخار يجتمعان فيه فيمنع‏.‏

وغَيْرُ مُقْتَاتٍ ولا مُدَّخَرِ *** يجُوزُ مَعْ تَفاضُلٍ كَالْخُضَرِ

‏(‏وغير مقتات ولا مدخر‏)‏ كمشماش وقثاء أو مقتات غير مدخر كلفت أو مدخر غير مقتات كلوز وجوز، وأما التين فهو مقتات مدخر على المذهب ولو لم ييبس خلافاً لما في ‏(‏خ‏)‏ من عدم ربويته ‏(‏يجوز‏)‏ بيعه ‏(‏مع تفاضل‏)‏ اتحد الجنس كقنطار من تفاح بقنطارين منه وأحرى لو اختلف ‏(‏كالخضر‏)‏ من قثاء ونحوها بمشماش‏.‏

وفي اخْتِلاَفِ الجِنْسِ بالإِطْلاَقِ *** جَازَ مَعَ الإنْجَازِ باتِّفَاقِ

‏(‏وفي اختلاف الجنس بالإطلاق‏)‏ يتعلقان بقوله‏:‏ ‏(‏جاز مع الإنجاز باتفاق‏)‏ أي‏:‏ وجاز التفاضل في اختلاف الجنس مطلقاً من غير تقييد بربوي ولا غيره بشرط المناجزة لأن المناجزة هي موضوع هذه الأبيات كما مرّ تحصيله في البيت الثاني، وإنما جاز مع اختلاف الجنس لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم‏:‏ ‏(‏فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يداً بيد‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ لما نص عليه الصلاة والسلام على الأربعة المسماة في الحديث، أضاف العلماء إليها ما كان في معناها على ما فهموا من خطابه وعللوها بأنها مقتاتة مدخرة للعيش غالباً فنصه ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ على البر والشعير تنبيه على كل مقتات مدخر كالذرة والدخن والأرز والسمسم والقطاني كلها كالفول والعدس واللوبيا وكرسنة والحمص، وكل واحد من هذه الأفراد جنس على حدته ما عدا القمح والشعير فهما جنس واحد على المشهور، وكذلك الأدم كلها كاللحوم والخلول والألبان والزيوت والرب كل واحد جنس على حدته، وكذا البصل والثوم لهما حكم المقتات المدخر وكل منهما جنس على حدته، ونصه عليه الصلاة والسلام على التمر تنبيه منه على كل حلاوة مقتاتة مدخرة للعيش غالباً فيلحق به التين والزبيب والعسل والسكر، وما في معناها‏:‏

وكل واحد جنس على حدته ونصه عليه الصلاة والسلام على الملح تنبيه على مصلح الطعام المقتات فيلحق به التوابل من فلفل وكزبرة وكراوياء وأنيسون وهو المسمى بحبة الحلاوة عندنا وشمار كسحاب وكمونين ونحوها‏.‏

وَبَيْعُ مَعْلُومٍ بما قَدْ جُهِلاَ *** مِنْ جِنْسِهِ تَزَابُنٌ لَنْ يُقْبَلاَ

‏(‏وبيع‏)‏ شيء ‏(‏معلوم‏)‏ قدره بكيل أو وزن أو عدد ‏(‏بما‏)‏ أي شيء ‏(‏قد جهلا‏)‏ قدره ومبلغه ‏(‏من جنسه‏)‏ أي من جنس المبيع به ‏(‏تزابن‏)‏ أي يسمى بذلك ‏(‏لن يقبلا‏)‏ شرعاً أي لا يجوز ولو كان يداً بيد مأخوذ من الزبن بمعنى المخاطرة أو بمعنى الدفع لأن كلاً من المتعاقدين يخاطر صاحبه أو يدافعه عن مراده ويعتقد أنه الغالب ومنه الزبانية لدفعهم الكفار في النار، وإذا امتنع بيع المعلوم بالمجهول فأحرى بيع المجهول بالمجهول‏.‏ وفي صحيح مسلم، نهى رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ عن المزابنة وهي بيع العنب بالزبيب كيلاً‏.‏ المازري‏:‏ المزابنة عندنا بيع معلوم بمجهول أو مجهول من جنس واحد‏.‏ ابن عرفة‏:‏ يبطل عكسه بيع الشيء بما يخرج منه ويكون في الربوي وغيره الخ‏.‏ فمن المزابنة في الربوي بيع الرطب باليابس كشراء رطب تمر أو تين أو عنب في شجره بيابس من جنس كل كيلاً لأن الرطب مجهول قدره إذ لا يدري قدره بعد يبسه هل هو قدر كيل التمر اليابس أو التين اليابس أو الزبيب أو أقل أو أكثر، ومنها أيضاً بيع زرع قائم أو محصود بكيل من البر أو زيتون في شجره بكيل من الزيتون رطباً أو جافاً، ومنها في غير الربا بيع قنطار من مشماش بصبرة منه غير معلومة الوزن أو بما في رؤوس شجره لأنه وإن جاز فيه التفاضل لكن منع لما فيه من الغرر والمخاطرة والمغالبة، ولذا إذا كثر أحدهما كثرة بينة بحيث لا يشك أحد أن أحد الجهتين أكثر جاز لانتفاء الغرر والمخاطرة، ومنها في غير المطعومين بيع قنطار من كتان أو حرير بكتان أو حرير مجهولي الوزن إلا أن يكثر أحدهما كثرة بينة كما مر في الذي قبله، ومنها أيضاً سلم الشيء فيما يخرج منه كسلم حديد في سيف أو شعر في غزله ولو كانا معلومين وزناً، وكذا سلم حب في دهنه ولو علما، وبهذا اعترض ابن عرفة على المازري بأن حده للمزابنة غير جامع إذ لا يشمل بيع الشيء بما يخرج منه مع أنه مزابنة، وعدم شموله إنما هو من جهة أن بيع الشيء بما يخرج منه لا يتقيد بكونهما مجهولين أو مجهول أحدهما، بل يمتنع ذلك، ولو علما كما مر، ومفهوم قول الناظم من جنسه إنما هو بغير جنسه جائز وهو كذلك فيجوز بيع العنب بيابس التمر صبرة، وكذا بيع صبرة تفاح بصبرة مشماش مثلاً لكن بشرط المناجزة كما تقدم لامتناع النساء فيهما، ويجوز أيضاً بيع قنطار من صوف بشيء من الحرير مجهول الوزن بالمناجزة أو التأخير ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على المنهي عنه‏:‏ وكمزابنة مجهول بمعلوم أو مجهول من جنسه وجاز إن كثر أحدهما في غير ربوي قال ‏(‏م‏)‏‏:‏ فلو زاد الناظم بعد هذا البيت‏:‏

كذاك مجهول بمجهول عدا *** إن كثر الفضل فلا منع بدا

وسلم الشيء بشيء يخرج *** منه تزابن وذاك المنهج

لوفى بيع مجهول بمجهول أو بما يخرج منه‏.‏

قلت‏:‏ والذي ينبغي التنصيص عليه ههنا هو بيع الشيء بما يخرج منه، وأما المجهول فقدم ما يفيد عدم جوازه في أول الباب إذ من شرط صحة البيع مطلقاً علم عوضه‏.‏

فصل في بيع النقدين

أي المسكوك من الذهب والفضة‏.‏ ‏(‏والحلى‏)‏ أي المصوغ منها ‏(‏وشبهه‏)‏ وهو المحلى بأحد النقدين أو بهما‏.‏

الصَّرْفُ أَخْذ فِضّةٍ بِذَهَب *** أَوْ عَكْسُهُ وَمَا تَفَاضَلَ أُبي

‏(‏الصرف أخذ‏)‏ أي بيع ‏(‏فضة بذهب أو عكسه‏)‏ أي أخذ فضة في ذهب، إنما يحتاج للتنصيص على العكس إذا اعتبر آخذ معين وإلا فهو عين ما قبله ‏(‏وما تفاضل أُبي‏)‏ بضم الهمزة أي لا يمتنع فيه التفاضل فيجوز أوقية من فضة بأوقيتين من ذهب‏.‏ وإنما يمتنع فيه التأخير كما سيقوله‏:‏

والجِنْسُ بالجِنْس هُوَ الْمُرَاطَلَهْ *** بالوَزْنِ أو بالعَدِّ فالْمُبَادَلَهْ

‏(‏والجنس بالجنس‏)‏ أي بيع الذهب بمثله أو الفضة بمثلها ‏(‏هو المراطلة‏)‏ إذا كان ذلك ‏(‏بالوزن‏)‏ ولها صورتان إحداهما أن يجعل رطل ذهب في كفة حتى يعتدلا، والأخرى أن يجعل أحد الذهبين في كفة والحجر في كفة فإذا عادله نزع ويجعل ذهب الآخر مكانه حتى يعادل الحجر أيضاً، وهذه الصورة كما لابن رشد أرجح ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ومراطلة عين بمثله بصنجة أو كفتين الخ‏.‏ وسواء كانت الصنجة أو الحجر معلومة القدر أم لا كان الذهب والفضة مسكوكين أو أحدهما أم لا‏.‏ كان التعامل وزناً أو عدداً، وإنما يشترط أن لا يدور الفضل من الجانبين كسكة متوسطة في الجودة تراطل بأدنى منها أو أجود‏.‏ ‏(‏أو‏)‏ أي وأن بيع الجنس بالجنس ‏(‏بالعد ف‏)‏ هو ‏(‏المبادلة‏)‏ وهي جائزة في القليل والكثير إذا اتفق وزن الآحاد وكان التعامل بها عدداً فإن كان التعامل بالوزن لم يجز إلا بالوزن وتعود مراطلة كما في ضيح، وإن كان أحد العوضين أو بعضه أوزن من العوض الآخر بسدس فأقل والبعض الآخر مساوٍ امتنعت إلا في اليسير وهو ستة فدون على المشهور ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وجازت مبادلة القليل المعدود دون سبعة بأوزن منها الخ‏.‏ وعليه فإذا بادله عشرين بعشرين وعشرة منها أوزن بأن يكون كل دينار أو درهم منها يزيد بسدس فأكثر على مقابله من الجانب الآخر امتنعت، وإن كان ستة منها فدون يزيد كل واحد منها بسدس فدون على مقابلة جازت بشرط أن يكون التعامل بالعدد كما مر، وأن تكون بلفظ المبادلة وأن يكون الزائد لمحض المعروف وأن تكون في مسكوك لا في مكسور وتبر، ولا يشترط اتحاد السكة كما في ‏(‏ز‏)‏ وأن تكون واحداً بواحد أو اثنين باثنين وهكذا إلى ستة لا واحد باثنين على مذهب مالك لأنه كره إبدال الدينار بأربعة وعشرين قيراطاً ولم يرخص فيه، وقال ابن القاسم‏:‏ لا أرى به بأساً‏.‏ ابن رشد‏:‏ معناه في القراريط التي تضرب من الذهب كل قيراط من ثلاث جهات فتكون زنة المثقال أي الدينار أربعة وعشرين قيراطاً فيعطى الرجل المثقال ويأخذ أربعة وعشرين قيراطاً فكره ذلك مالك إذ لا يخلو من أن تزيد على المثقال أو تنقص عنه لأن الشيء إذا وزن مجتمعاً ثم فرق زاد أو نقص فقول مالك بكراهة ذلك هو القياس، لا سيما والصيرفيون يزعمون أن الدراهم إذا وزنت مفترقة ثم جمعت نقصت فيكون صاحب القراريط إنما ترك فضل عدد قراريطه لفضل الدينار الوازن وما يرجوه من زيادة وزنه على وزن قيراطه، وأجازه ابن القاسم استحساناً على وجه المعروف في الدينار الواحد كما أجازوا مبادلة الدينار الناقص بالوازن على وجه المعروف اه‏.‏ قال القباب‏:‏ فحاصله أن في الدنانير بالقراريط غير مراطلة قولين، وإذا قيل بالجواز في دينار بأربعة وعشرين قيراطاً فبكبير من الدراهم بصغيرين أحرى في الجواز، وكذا كبير من الدراهم بأربعة قراريط فضة ما لم يتبين أن الدنانير أنقص من القراريط أو بالعكس فتقبح المسألة اه‏.‏

وحاصله‏:‏ أن كلام ابن رشد وتعليله بدوران الفضل يدل على أن محل الخلاف إذا اتحد وزن الدينار والقراريط فمالك منعه لدوران الفضل وابن القاسم أجازه على وجه المعروف ومراده بالفضل الفضل المترقب لا الحاصل كما يدل عليه قوله‏:‏ وما يرجوه من زيادة وزنه الخ‏.‏ قاله أبو العباس الملوي في بعض طرره، وقول القباب ما لم يتبين أن الدينار أنقص الخ‏.‏ ظاهره ولو كان أنقص بسدس فدون فتمتنع المسألة لأنه اجتمع للمنع علتان دوران الفضل، وكون الدينار أو القراريط أنقص ولا يلزم اغتفار أحد الأمرين مع اتحاده اغتفاره إذا اجتمع مع غيره، وهذا الذي فهمه القباب نحوه في نوازل البرزلي قال‏:‏ اختلف في استصراف الجملة بالأجزاء مثل أن يعطي دينارين فيأخذ نصفين أو درهماً بقيراطين فأجازه ابن القاسم دون وزن كبدل الناقص بالوازن على وجه المعروف وكرهه مالك الخ‏.‏ ثم قال‏:‏ بيع الدرهم بقيراطين دون مراطلة جائز وإن احتمل أن يكون بينهما تفاضل في الوزن إذ الغالب التساوي الخ‏.‏ ثم ذكر في موضع آخر عن ابن عرفة أنه سئل هل يجوز صرف الدينار بالربيعيات من سكة بغير مراطلة اعتماداً على دار السكة‏؟‏ فأجاب بأن فعل ذلك من غير مراطلة اتكالاً على دار الضرب لا يجوز قبل اليوم وأحرى اليوم لظهور فعل الفسقة بالقطع من موزونات دار الضرب ذهباً أو فضة في الأجزاء وغيرها اه‏.‏ البرزلي‏:‏ وما ذكره من منع اقتضاء الأجزاء اليوم واضح وأحرى إذا بادل بها من غير مراطلة، ومسألة ابن القاسم في العتبية هي مع السلامة من النقص اه‏.‏ بنقل الملوي فقف على قوله، ومسألة ابن القاسم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ فكلام البرزلي هذا موافق لما مر عن القباب، وأن معنى مسألة ابن القاسم إذا اتفقت الأجزاء مع الدينار في الوزن، وصريح كلام ‏(‏م‏)‏ ههنا مع من تبعه وهو ظاهر فتوى الإمام القصار‏.‏ وكلام غير واحد من شراح ‏(‏خ‏)‏ أن مسألة ابن القاسم أعم مما إذا تساوى العوضان وزناً أو كان أحدهما أوزن لأن الشراح قالوا‏:‏ إذا تساوى العوضان وزناً جازت المبادلة في القليل والكثير ولا يشترط فيهما واحد بواحد ولا غير ذلك من الشروط المتقدمة، وظاهرهم اتفاقاً فلا يعتبر الدوران حينئذ ولا غيره، وكذا الإمام القصار أطلق في فتواه على ما نقلوه عنه فظاهره العموم وصرح به ‏(‏م‏)‏ ههنا فقال بعد نقله كلام ابن رشد المتقدم ما نصه‏:‏ هذا صريح في جواز إبدال الدينار بنصفي دينار أو بأربعة أرباعه وإن لم يتساو العوضان في الوزن، وعلى هذا اعتمد الإمام أبو عبد الله القصار في فتواه بجواز إبدال ريال كبير بعشرين موزونة‏.‏ يعني‏:‏ أو بأكثر حين صغرت الدراهم وذلك في ريال واحد لا في أكثر، ومأخذه في ذلك ظاهر والله أعلم اه‏.‏

فهؤلاء الأئمة فهموا مسألة ابن القاسم على العموم كما ترى ووجهه ظاهر لأنه إذا اغتفر ابن القاسم دوران الفضل على ما قرره ابن رشد، فكذلك يغتفر النقص المقارن له من أحد الجانبين الذي اتفق هو ومالك على اغتفاره لأنه الموضوع، إذ اغتفار الدوران معروف عنده، واغتفار السدس فدون كذلك عند الجميع، فإذا اغتفر ابن القاسم كلاًّ على الانفراد فكذلك عند الاجتماع والله أعلم، ويمكن أن يقال معنى قول القباب‏:‏ ما لم يتبين أن الدينار أنقص الخ‏.‏ يعني بأكثر من سدس فيوافق حينئذ هؤلاء على أن اللخمي والمازري والجلاب وصاحب التلقين وغير واحد كلهم أطلقوا القول في قدر النقص فلم يحدوه بسدس ولا غيره، وأجازوا مبادلة الستة فدون بأنقص منها، وما ذاك والله أعلم، إلا لكون الزيادة غير منتفع بها ولو كانت أكثر من سدس وخلافهم رحمة والله أعلم، ويترجح حينئذ حمل مسألة ابن القاسم على العموم وهو م عليه العامة الآن ولا يستطيع أن يردهم عن ذلك أحد، وانظر ما وجه المنع في إبدال ريالين مثلاً باثنين وثلاثين درهماً حيث كان صرفه بستة عشر درهماً كما في زمننا هذا مع اتحاد الجانبين في الوزن أو كون أحدهما أزيد بسدس، والظاهر الجواز مع اتحاد الوزن مطلقاً أو إلى ستة مع زيادة أحد الجانبين بسدس فدون لأن المسألة إنما أجيزت على مذهب ابن القاسم للمعروف وهو لا يختص بالواحد والله أعلم‏.‏

وبالجملة فاشتراط لفظ المبادلة إنما هو لكونه دالاً على عدم المماكسة، وفيه إشعار بقصد المعروف، ولكن العامة اليوم يعبرون عنها بلفظ الصرف فيقولون‏:‏ صرِّف لي هذه الدراهم بمثلها أو بريال مثلاً، والظاهر أنه لا ينقض عقدهم لإخلالهم بالشرط المذكور لأن المدار في العقود على المقاصد والمعاني لا الألفاظ، وأما الريال بالدراهم الصغار فعلى ما لهؤلاء إن كان الريال يوافق وزن العدد فلا إشكال وإن كان هو أزيد بسدس فدون فكذلك، وإن كانت الدراهم أي مجموعها أزيد بسدس فكذلك أيضاً، وإن كان ظاهر المصنف المنع لأنها أزيد من ستة وإن كان كل واحد من أفرد الدراهم يزيد بسدس فيحتمل المنع لأن الدراهم الستة عشر تكون زائدة على الريال بثلاثة دراهم غير ثلث درهم، وذلك لا تسمح به النفوس غالباً، ويحتمل الجواز وهو الظاهر لأن الزيادة المذكورة غير منتفع بها كما لا يجوز إبدال ستة ريالات بستة أخرى أو بدراهم مع كون كل واحد من ريال إحدى الجهتين زائداً على مقابله بسدس، فيجتمع في تلك الأسداس ريال كامل، وكذلك الدنانير ولو شرعية يجتمع فيها دينار كامل وذلك مما لا تسمح به النفوس، ولكنك قد علمت أن المدار على كون الزائد لا ينتفع به في التعامل، وكل ما كان كذلك تسمح به النفس غالباً، ويحتمل الجواز فتأمل ذلك‏.‏ ولو شك في أحد الجانبين هل هو أوزن من الآخر بسدس أو أكثر أو مساوٍ‏؟‏ فينظر للغالب فإن غلب التقصيص في الدراهم امتنع وإلاَّ جاز كما تقدم، ودراهم زمننا اليوم لا تزيد عليه ولا يزيد عليها في الغالب إلا بالشيء التافه‏.‏

فرع‏:‏ وفي المعيار عن التونسي‏:‏ يجوز مراطلة الدراهم القديمة وهي أكثر فضة بالجديدة قائلاً لأن معطى الجديدة متفضل لا انتفاع له بما في القديمة من زيادة الفضة، إذ لو سكت القديمة لخسر فيها ويغرم عليها لتصير جديدة قال‏:‏ ويجوز قضاء الجديدة عن القديمة، ومن باع قبل قطعها فليس له إلا هي اه باختصار‏.‏ ونقله ‏(‏ح‏)‏ قال ‏(‏ت‏)‏‏:‏ وهذه الفتوى مخالفة للمشهور اه‏.‏

قلت‏:‏ وجه مخالفتها دوران الفضل من الجانبين‏.‏

والشَّرْطُ في الصَّرْفِ تَناجُزٌ فَقَطْ *** وَمَعَهُ المثْلُ بِثَانٍ يُشْتَرَطْ

‏(‏والشرط في الصرف‏)‏ المذكور أولاً ‏(‏تناجز‏)‏ فلا يجوز التأخير في القبض للعوضين أو أحدهما مع افتراق ولو قريباً فإن كان التأخير بالمجلس من غير افتراق فيمنع الطويل ويكره القريب‏.‏ قال في المدونة في الذي يصرف ديناراً من الصيرفي فيدخله تابوته ثم يخرج الدراهم‏:‏ لا يعجبني، ولكن يتركه حتى يرى الدراهم فيأخذ ويعطي‏.‏ ‏(‏فقط‏)‏ أي انته عن الزيادة على اشتراط التناجز في الصرف فلا تشترط فيه المماثلة، إذ يجوز فيه التفاضل كدرهم بدينارين ‏(‏ومعه المثل‏)‏ مبتدأ والظرف قبله مع المجرور في قوله ‏(‏ بثان‏)‏ يتعلقان بقوله ‏(‏يشترط‏)‏ والجملة خبر والباء ظرفية بمعنى ‏(‏في‏)‏ أي‏:‏ والمثل يشترط مع التناجز في الثاني وهو بيع الجنس بالجنس فلا يجوز فيه التأخير ولا التفاضل معدودين كانا أو مصوغين أو مختلفين إلا ما تقدم من رخصة المبادلة في ستة فدون بشروطها المتقدمة فوق هذا البيت‏.‏

وبَيْعُ مَا حُلِّيَ مِمَّا اتُّخِذَا *** بِغَيْرِ جِنْسِهِ بِنَقْدٍ نفَذا

‏(‏وبيع‏)‏ مبتدأ ‏(‏ما‏)‏ شيء ‏(‏حلي‏)‏ بذهب أو فضة وكان يخرج منه شيء منهما عند سبكه أي حرقه وكان مستمراً بحيث لا ينزع إلا بفساد ‏(‏مما اتخذا‏)‏ يتعلق بمحذوف حال من ما ‏(‏ بغير جنسه‏)‏ يتعلق ببيع وكذا ‏(‏بنقد‏)‏ وقوله ‏(‏نفذا‏)‏ خبر المبتدأ وهو بالبناء للمفعول مع تشديد الفاء، ويجوز بناؤه للفاعل مع تخفيف الفاء والتقدير‏:‏ وبيع شيء محلى حال كونه مما يجوز اتخاذه كالمصحف مطلقاً والسيف للرجال والثوب للمرأة بغير جنسه بمعجل نافذ جائز كانت الحلية تابعة أو متبوعة ولا يشترط أن يكون الجميع ديناراً أو يجتمعا فيه للضرورة فرخص فيه لذلك، واحترزت بقولي‏:‏ وكان يخرج منه الخ‏.‏ مما إذا كان لا يخرج منه شيء عند الحرق فإنه لا يعتبر حينئذ من الذهب والفضة ويباع بمؤجل ومعجل بصنفه وبغيره وبقولي‏:‏ مسمراً الخ‏.‏ مما لو كان غير مسمر كقلادة مثلاً أو لا فساد في نزعه فإنه لا يباع بجنسه ولا بغيره إلا على حكم اجتماع البيع والصرف‏.‏ نعم بالعرض يجوز وبقوله‏:‏ مما اتخذا الخ‏.‏ مما إذا لم يجز اتخاذه كدواة محلاة أو سرج ونحوهما، فإنه لا يجوز بصنفه ولا بغيره بل بعرض إلا أن يقل عن صرف دينار كاجتماع البيع والصرف أيضاً، وبقوله‏:‏ بغير جنسه يعني كالمحلى بالذهب يباع بالفضة وبالعكس احترازاً مما لو بيع بجنس غير الحلية التي فيه كبيع المحلى بذهب أو المحلى بفضة، فإنه لا يجوز لما فيه من بيع ذهب وعرض بذهب أو فضة وعرض بفضة وهو الربا المعنوي المشار له بقوله‏.‏ ‏(‏خ‏)‏‏:‏ كدينار ودرهم أو غيره بمثلهما هذا كله مع تحقق التماثل فكيف به مع الشك فيه كما هنا لأن الحلية لا يتأتى معرفة قدرها إلا بالتحري كما يأتي، اللهم إلا إذا كانت الحلية الثلث فدون لأنها حينئذ تبع، وهل يعتبر الثلث بالقيمة أو بالوزن‏؟‏ خلاف فإن كان وزن الحلية عشرين ولصياغتها تساوي ثلاثين، وقيمة النصل أربعون فالمجتمع سبعون، فإذا نسبت قيمة الحلية وهي ثلاثون للسبعين كانت أكثر من الثلث فلا يجوز على الأول وجاز على الثاني لأنه يعتبر الوزن ووزنها عشرون وهي ثلث، ثم إن الوزن على القول به يعتبر بالتحري فإن لم يكن تحريه لعدم وجود من هو أهل صنعته فتعتبر القيمة حينئذ اتفاقاً، واحترز بقوله‏:‏ بنقد أي بمعجل مما لو بيع بمؤجل، فإنه لا يجوز بصنفه ولا بغيره لما فيه من ربا النساء‏.‏ نعم يجوز بعرض وإلى المسألة بشروطها أشار ‏(‏خ‏)‏ بقوله‏:‏ وجاز محلى وإن كان ثوباً يخرج منه عين إن سبك بأحد النقدين إن أبيحت وسمرت وعجل بغير صنفه مطلقاً وبصنفه إن كانت الثلث فأقل وهل بالقيمة أو بالوزن‏؟‏ خلاف‏.‏

 وكُلُّ ما الْفِضّةُ فيهِ والذَّهبْ *** فبالعُرُوضِ البَيْعُ في ذَاكَ وجَبْ

‏(‏وكل ما‏)‏ أي محلى ‏(‏الفضة فيه والذهب فبالعروض البيع فيه قد وجب‏)‏ نقداً أو إلى أجل، ولا يجوز بذهب ولا فضة ولو نقداً لما يلزم عليه من الربا المعنوي، لأنه حينئذ بيع ذهب وفضة وعرض بذهب أو بيع فضة وعرض وذهب بفضة، اللهم إلا أن يكون مجموعهما تبعاً لقيمة المحلى، فيجوز حينئذ بيعه بأحدهما لا بهما معاً، ومحل جوازه بأحدهما مع التبعية إذا توفرت الشروط الثلاثة التي هي الإباحة والتسمير والتعجيل ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وإن حلي بهما لم يجز بأحدهما إلا أن تبعا الجوهر‏.‏

فصل في بيع الثمار وما يلحق بها

من المقاثي والخضر وذي النور كالورد ونحوه‏.‏

بَيْعُ الثِّمَار والمَقاثي والْخُضَرْ *** بَدْوُ الصَّلاَحِ فِيهِ شَرْطٌ مُعْتَبَرْ

‏(‏بيع الثمار‏)‏ من عنب أو تمر أو تفاح أو مشمش ‏(‏والمقاثي‏)‏ كالبطيخ والفقوس ‏(‏ والخضر‏)‏ كاللفت والجزر والبصل والفجل ‏(‏بدو‏)‏ أي ظهور ‏(‏الصلاح‏)‏ ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وهو الزهو وظهور الحلاوة والتهيؤ للنضج، وفي ذي النور بانفتاحه والبقول بإطعامها ‏(‏ فيه‏)‏ أي في جواز بيع جميع ما ذكر ‏(‏شرط معتبر‏)‏ لا بد منه ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وصح بيع ثمر ونحوه بدا صلاحه إن لم يستتر ولا يجوز بيعه قبل بدو صلاحه كما قال‏:‏

وحَيْثُ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُها امْتَنَعْ *** مَا لَمْ يَكُنْ بالشَّرْطِ لِلْقَطْعِ وَقَعْ

‏(‏وحيث لم يبد صلاحها امتنع‏)‏ بيعها، وأما بدوه في بعض جنس ولو في نخلة واحدة أو دالية أو اسوداد عنقود أو حبات منه، فذلك كاف في ذلك الجنس كله وفي مجاوره إن لم تكن باكورة‏.‏ ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وبدوه في بعض حائط كاف في جنسه إن لم تبكر الخ‏.‏ ويدخل في الثمار الحبوب كالقمح ونحوه‏.‏ وبدو الصلاح فيها اليبس فإن بيع قبله فلا يجوز إلا أن يكون البيع فيه وقع بعد الإفراك على أن يتركه حتى ييبس أو يكون ذلك لعرف فيه فيمضي بقبضه كما قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ومضى بيع حب أفرك قبل يبسه بقبضه، وأما إن لم يشترط تركه ولا كان العرف ذلك فالبيع فيه جائز وإن تركه مشتريه حتى ييبس قاله ابن رشد، ‏(‏ما لم يكن‏)‏ البيع للذي لم يبد صلاحه ‏(‏ بالشرط للقطع وقع‏)‏ فإنه يجوز بشروط ثلاثة‏.‏ أن ينتفع به في الحين كالحصرم والفول الأخضر والفريك، وأن يضطر أي يحتاج المتبايعان أو أحدهما لبيعه كذلك، وأن لا يقع من غير أهل محله أو أكثرهم التوافق على بيعه للقطع قبل بدوه أو يعتادون ذلك، فان اختل شرط من هذه الثلاثة لم يجز لما في ذلك من الفساد وإضاعة المال فتحصل مما هنا ومما مرّ أن الثمرة يجوز بيعها قبل بدو صلاحها في ثلاثة مواضع‏.‏ أحدها‏:‏ إذا بيعت مفردة على شرط القطع كما هنا‏.‏ ثانيها وثالثها‏:‏ أن تباع مع أصلها أو تلحق به كما مرّ في قوله‏:‏

ومشتري الأصل شراؤه الثمر *** قبل الصلاح جائز فيما اشتهر

‏(‏خ‏)‏‏:‏ وصح بيعه قبل الصلاح مع أصله أو ألحق به أو على قطعه إن نفع واضطر له ولم يتمالأ عليه لا على التبقية أو الإطلاق‏.‏

وَخِلْفَةُ القَصيل ملْكُهُ حَرِي *** لِبَائِعٍ إلاّ بِشَرْطِ المُشْتَرِي

‏(‏وخلفة القصيل ملكه حري‏)‏ أي حقيق ‏(‏البائع‏)‏ فإذا بيع القصيل ونحوه مما يجز ويخلف كالقرط والقضب فخلفته مملوكة للبائع، وإنما يملك المشتري الجزة الأولى ‏(‏ إلا بشرط المشتري‏)‏ عند العقد أنه يشتري القصيل بخلفته فتكون له الخلفة حينئذ، ثم إنه يشترط في جواز شراء القصيل شرطان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يبلغ حد الانتفاع به، وثانيهما‏:‏ أن لا يشترط تركه إلى أن يحبب لأنه حينئذ بيع للحب قبل وجوده، فإذا وجد الشرطان وبيع بخلفته فيشترط في جواز اشتراطها ثلاثة شروط‏.‏ أن تكون مأمونة كأرض سقي بغير مطر، وأن يشترطها كلها لا بعضها، وأن لا يشترط ترك الخلفة إلى أن تجب أيضاً للعلة المتقدمة، وكذا تشترط هذه الثلاثة فيما إذا اشترى الخلفة بعد شراء القصيل، لكن إنما يجوز له شراؤها بشروطها المذكورة قبل جز القصيل لا بعده لأنه حينئذ غرر غير تابع، فإن اختل شرط من شرطي القصيل فسد العقد وفسخ إلا أن يفوت ففيه القيمة، وكذا إن اختل شرط من شروط الخلفة، وكلام ‏(‏ز‏)‏ فيه خلل والله أعلم‏.‏ والقضب بفتح القاف وسكون الضاد ما يقضب أي يقطع مرة بعد مرة، والقرط بضم الطاء العشب الذي تأكله الدواب، ثم إن أرض المغرب ملحقة عندهم بأرض السقي، وعليه فإذا كان القصيل في فصل الشتاء بلغ حد الانتفاع به فيجوز بيعه مع خلفته التي يخلفها قبل فصل الصيف لأنهم جعلوا أرض المغرب مما يجوز كراؤها بشرط النقد كما يأتي في الإجارة إن شاء الله‏.‏

وَلا يَجُوزُ في الثِّمَار الأجَلُ *** إلاّ بِما إثْمارُه مُتَّصِلُ

‏(‏ولا يجوز في‏)‏ بيع ‏(‏الثمار‏)‏ التي تطعم بطوناً كالمقاثي والياسمين ‏(‏الأجل‏)‏ كأن يبيعه ما تطعمه المقاثي أو الياسمين شهراً لاختلاف حملها قلة وكثرة كما في المدونة، بل إنما يجوز شراؤها على الإطلاق، ويكون المشتري جميع بطونها ولو لم يشترطها ‏(‏إلا بما‏)‏ أي إلا في الشجر الذي ‏(‏ إثماره متصل‏)‏ لا ينقطع في سائر السنة كالموز فلا بد فيه من ضرب الأجل لاستمرار إطعامه وعدم تمييز بطونه ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وللمشتري بطون كياسمين ومقثاة، ولا يجوز بكشهر ووجب ضرب الأجل إن استمر كالموز‏.‏

وَغَائِبٌ في الأرْضِ لا يُبَاعُ *** إلاّ إذَا يَحْصُلُ الانْتِفَاعُ

‏(‏وغائب في الأرض‏)‏ كاللفت والجزر والفجل والبصل والثوم ‏(‏لا يباع إلا إذا‏)‏ بدا صلاحه وبدوه كما للباجي أن يستقل ورقه ويتم و‏(‏يحصل الانتفاع‏)‏ به ولم يكن في قلعه فساد، وهذا فيه نوع تكرار مع ما قدمه أول الفصل‏.‏

وَجَائِزٌ في ذَاكَ أنْ يُسْتُثْنَى *** أكْثَرُ مِنْ نِصْفٍ لَهُ أَوْ أَدْنَى

‏(‏وجائز في ذاك‏)‏ المبيع المتقدم من التمر والمقاثي والخضر ‏(‏أن يستثنى‏)‏ البائع منه ‏(‏أكثر من نصف له‏)‏ أي لنفسه ‏(‏أو أدنى‏)‏ من نصف كربع وثلث، وهذا في استثناء الشائع بدليل قوله‏:‏

وَدُونَ ثُلْثِ إنْ يَكُنْ ما اسْتُثْنِي *** بِعَدَدٍ أوْ كَيْلٍ أَوْ بِوَزْنِ

‏(‏ودون‏)‏ صوابه وقدر كما في ‏(‏خ‏)‏ الخ‏.‏ ‏(‏ثلث إن يكن ما‏)‏ أي القدر الذي ‏(‏استثني‏)‏ معيناً محصوراً بدليل قوله‏:‏ ‏(‏بعدد‏)‏ كأن يبيعه بستان الجوز ويستثني منه عشرة آلاف جوزة أو يبيعه مقثاة ويستثني منها مائة بطيخة ‏(‏أو‏)‏ محصوراً ب ‏(‏كيل‏)‏ كبيعه فدان زرع قائم بعد يبسه ويستثني منه وسقاً ‏(‏أو بوزن‏)‏ كبيعه ثمر حائطه ويستثني منه قنطاراً أو نحوه، فإن حزر أن عشرة آلاف من الجوز هي قدر ثلث البستان فدون، والمائة بطيخة قدر ثلث المقتاة فدون، والوسق قدر ثلث زرع الفدان فدون جاز الاستثناء المذكور وإلاَّ امتنع لكثرة الغرر، إذ لا يدري المشتري ما يبقى له بعد دفعه المستثنى فتحصل من النظم أن القدر الشائع يجوز استثناؤه مطلقاً وأن القدر المعين المحصور بعدد ونحوه يجوز استثناؤه إذا كان قدر ثلث فدون وإلى المسألتين أشار ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على الجائز بقوله وبيع صبرة وثمرة واستثناء قدر ثلث الخ‏.‏ ثم قال‏:‏ وجزء مطلقاً‏.‏

تنبيه‏:‏

إذا كانت الثمرة أنواعاً واستثنى من نوع منها أكثر من ثلثه إلا أنه ثلث الجميع فأقل فاختلف فيه قول مالك، وأخذ ابن القاسم وأشهب بالمنع نقله ‏(‏ز‏)‏ قال‏:‏ ومثل الاستثناء في العقد إذا أراد لما ذكر بعد العقد قبل قبض الثمن أو بعده وقبل التفرق الخ‏.‏ أي فإنه يجوز إذا كان العدد أو الوزن المشترى قدر الثلث فدون لأن اللاحق للعقد كالواقع فيه انظره‏.‏

وَإنْ يَكُنْ لِثَمَراتٍ عَيَّنا *** فَمُطْلَقاً يَسُوغُ مَا تَعَيَّنَا

‏(‏وإن يكن‏)‏ البائع ‏(‏لشجرات عينا‏)‏ أي استثنى ثمر شجرات بأعيانها ‏(‏فمطلقاً يسوغ‏)‏ استثناء ‏(‏ما تعينا‏)‏ من الشجرات كهذه النخلة وهذه كان قدر الثلث أو أكثر لأن المبيع هو ما سواه وهو معين أيضاً، فهذه ثلاث مسائل‏:‏ استثناء الجزء الشائع كربع ونحوه، واستثناء القدر المحصور بعدد أو كيل أو وزن، واستثناء نخلات بأعيانها، وبقيت مسألة رابعة لم يذكرها الناظم وهي‏:‏ أن يبيعه أصل حائطه مع ثمرته أو ثمرته فقط على أن للبائع ثمر خمس نخلات أو سبع ونحوها يختارها منه، فيجوز بشرط أن تكون ثمرتها قدر الثلث فدون ‏(‏خ‏)‏‏:‏ إلا البائع يستثنى خمساً من جنابه أي فيجوز إلا أنه لا مفهوم للخمس في كلامه، بل المدار على كون ثمرة ما يختاره ثلثاً فدون كما في المتيطية وغيرها‏.‏

وفي عَصيرِ الكَرَمِ يُشْرَى بالذَّهَبْ *** أوْ فِضَّةٍ أخْذُ الطَّعَامِ يُجْتَنَبْ

‏(‏وفي عصير الكرم‏)‏ أو غيره من الأطعمة والأشربة ما عدا الماء ‏(‏يشرى‏)‏ أي يباع ‏(‏ بالذهب أو فضة‏)‏ أو عرض ‏(‏أخذ الطعام‏)‏ كقمح أو تفاح أو غيرهما ‏(‏يجتنب‏)‏ لما فيه من اقتضاء الطعام عن ثمن الطعام وهو ممنوع للتهمة على بيع الطعام بالطعام نسيئة فلا مفهوم لعصير الكرم‏.‏ قال في المدونة‏:‏ لا يجوز لمن باع طعاماً أن يقبض فيه طعاماً من صنفه أو من غير صنفه إلا أن يأخذ منه ما باعه صفة وقدراً إن محمولة فمحمولة وإن سمراء فسمراء وهي إقالة اه‏.‏ وسواء أخذ ذلك قبل الأجل أو بعده‏.‏ ابن عرفة في بيوع الآجال‏:‏ ضابطة جعل المقتضى ثمناً للمبيع، ولذا امتنع أخذه عن كراء أرض بعين أو عرض، وكذا أخذ اللحم عن ثمن الحيوان من جنسه وعكسه اه‏.‏ وكذا لو أخذ الدراهم عن الذهب الذي هو ثمن الثوب وعكسه، أو أخذ ثوب القطن عن غزله إذا كان بعد مدة يمكن أن ينسج فيها لأنهما يتهمان على بيع الشيء بما يخرج منه وهو مزابنة كما مر‏.‏

تنبيه‏:‏

قال فيها أيضاً‏:‏ وإن أحلت على ثمن طعام لك من له عليك مثل الثمن من بيع أو من قرض لم يجز للمحال به أن يأخذه له من الطعام إلا ما كان يجوز لك أن تأخذه من غريمك اه‏.‏

تنبيه آخر‏:‏

قال البرزلي‏:‏ كان شيخنا يعني ابن عرفة يجيز لمن عليه طعام أن يرسل من يشتري طعاماً بمال الطالب ثم يتقاضاه منه الطالب قال‏:‏ وظاهره ولو كان من ناحيته وسببه ولعله خففه مراعاة لمن يجيز أن يقتضي من ثمن الطعام طعاماً وهو قول خارج المذهب والله أعلم‏.‏ ونقله العلمي في نوازله وفي البرزلي أيضاً سئل المازري عمن اضطرته الحاجة إلى اقتضاء الطعام من ثمن الطعام‏؟‏ فأجاب بأنه لا يجوز ثم قال في آخر كلامه‏:‏ ولكن إن لم يقدر على خلاص الثمن إلا بالطعام فيفعلانه على وجه سائغ يأخذ الطعام ويوكل به من يبيعه على ملك ربه فينفذه للحاضر ويقضي البائع ويفعله بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز وإبطال ما لا يجوز‏.‏

قلت‏:‏ مثله يقع اليوم عندنا يعطي الزرع للبادية فلا يجد ما يأخذه فيعطيه الحيوان والسؤال كالسؤال والجواب كالجواب اه‏.‏ ونقله الملوي في مسائل التصيير‏.‏

فصل في الجائحة في ذلك

أي في الثمار وما ألحق بها‏.‏

وكُلُّ مَا لاَ يُسْتَطَاعُ الدَّفْعُ لَهْ *** جَائْحَةٌ مِثْلُ الرِّياح المُرْسَلَه

‏(‏وكل ما‏)‏ أي شيء ‏(‏لا يستطاع الدفع له‏)‏ والاحتراز منه إذا أصاب الثمر فأتلف ثلثها فأكثر فهو ‏(‏جائحة‏)‏ لها وذلك ‏(‏مثل الرياح المرسله‏)‏ تسقط الثمرة بها والثلج والبرد والمطر الغالب والعفن والجراد والدود والطير والفأر والنار وغاصب وسارق‏.‏

وَالجَيْشُ مَعْدُودٌ مِع الجَوائِحِ *** كَفِتْنَةٍ وكالعَدُوِّ الكاشِحِ

‏(‏والجيش‏)‏ يمر بالنخل ليأخذ ثمرته ‏(‏معدود من الجوائح‏)‏ لأنه لا يستطاع دفعه ‏(‏ كفتنة‏)‏ تقع في البلد فينجلي عنه أهله أو يقل وارده بسببها فلا يجد مشتري الثمرة من يبيعها له كمن اكترى فندقاً أو حماماً فانجلى أهل البلد عنه أو قل وارده ولم يجد من يسكنه فلا كراء علية انظر شرح الشامل‏.‏ ‏(‏وكالعدو الكاشح‏)‏ يمنع مشتري الثمرة من الوصول إليها حتى سقطت الثمرة وتلفت، والكاشح المضمر للعداوة ولبعضهم في نظم الجوائح ما نصه‏:‏

جوائح أشجار الثمار كثيرة *** وعدتها ست وعشر فهاكها

فقحط وثلج ثم غيث وبردها *** وعفن وريح والجراد وفارها

ودود وطير غاصب ثم سارق *** وغرق وجيش والمحارب نارها

والمحارب داخل في العدو، والكاشح وقد ذكر ‏(‏خ‏)‏ منها أموراً زائدة على هذا فانظر ولا بد ومحل كون السارق والجيش جائحة ما لم يعرف السارق أو واحد من الجيش وإلا اتبع السارق بقيمة ما سرق ولو معدماً ولا يكون جائحة، وكذا الواحد من الجيش يتبع بالجميع لأنهم كالحملاء عن بعضهم بعضاً ما لم يكن ذلك الواحد معدماً غير مرجو يسره عن قرب، فالأظهر أنه جائحة قاله ابن عرفة‏.‏

فإنْ يَكُنْ مِنْ عَطَشٍ ما اتَّفَقَا *** فالوَضْعُ لِلثَّمن فِيهِ مُطْلَقَا

‏(‏وإن يكن من عطش ما اتفقا‏)‏ أي وإن يكن ما وقع من الجائحة حصل من العطش ‏(‏فالوضع للثمن فيه مطلقا‏)‏ بلغ الثلث أو لا‏.‏ كأن المجاح ثمرة أو ما ألحق بها من بقول ونحوه لأنه لما كان سقي الثمرة على البائع أشبه ما فيه حق توفية قاله في ضيح‏.‏

وإنْ تَكُنْ مِنْ غَيْرِهِ فَفِي الثَّمَرْ *** ما بَلَغَ الثُّلْثَ فَأَعْلَى المُعْتَبرْ

‏(‏وإن تكن‏)‏ الجائحة ‏(‏من غيره‏)‏ أي العطش ‏(‏ففي الثمر‏)‏ والفول الأخضر والفريك ونحوها لا يوضع منها إلا ‏(‏ما بلغ الثلث‏)‏ من مكيله ‏(‏فأعلى‏)‏ لأن ثلث المكيلة فأكثر هو ‏(‏المعتبر‏)‏ عندهم في وضعها مما ذكر ‏(‏خ‏)‏ وتوضع جائحة الثمار إلى قوله‏:‏ إن بلغت ثلث المكيلة الخ‏.‏ أي‏:‏ ولا توضع فيما نقص عن ثلث المكيلة ولو كانت قيمته ثلثاً فأكثر كما لو أجيح سدس الثمرة الذي طاب أو لا‏.‏ وقيمته لغلائه عشرة وقيمة ما بقي لرخصه بتأخيره في الطيب عشرون لم توضع على المشهور‏.‏

وَفي البُقولِ الوَضْعُ في الكَثِيرِ *** وَفي الَّذِي قَلَّ عَلَى الْمَشْهُورِ

‏(‏وفي البقول‏)‏ وهي التي يؤكل ما خرج منها فوق الأرض دون الداخل فيها وذلك كالكرنب والخس والهندبا ونحو ذلك ‏(‏الوضع في‏)‏ المجاح ‏(‏الكثير‏)‏ الذي بلغ الثلث فأكثر ‏(‏ وفي الذي قل‏)‏ عن الثلث كالسدس ونحوه ‏(‏على المشهور‏)‏ وإنما وضعت في البقول مطلقاً لأن غالبها من العطش وحمل ما أجيح منها بغيره عليه‏.‏

وَألْحَقُوا نَوْعَ المَقَاثي بالثَّمَرْ *** هِنَا وَمَا كالْيَاسَمِين والجَزَرْ

‏(‏وألحقوا نوع المقاثي‏)‏ وهي التي تطعم بطناً بعد بطن كبطيخ وفقوس وقرع وباذنجان ونحوها ‏(‏بالثمر هنا‏)‏ فلا توضع الجائحة فيها إلا إذا بلغت الثلث ‏(‏و‏)‏ ألحقوا بها أيضاً ‏(‏ما‏)‏ كان ‏(‏كالياسمين‏)‏ والورد من كل ما يجنى ويبقى أصله ‏(‏و‏)‏ ألحقوا بها أيضاً مغيب الأصل كالبصل ‏(‏والجزر‏)‏ واللفت ونحوها‏.‏ وهذا القول من أن مغيب الأصل كالجزر واللفت والفجل ملحق بالثمار‏.‏ قال في المتيطية‏:‏ هو الذي القضاء ومقابله أنها كالبقول وهو المشهور ومذهب الدونة، قال فيها‏:‏ وأما جائحة البقول والسلق والبصل والجزر والفجل والكراث وغيرها فيوضع قليل ما أجيح منه وكثيره اه‏.‏ وعليه اقتصر ‏(‏خ‏)‏ إذ قال‏:‏ وتوضع جائحة الثمار وإن قلت كالبقول والزعفران والريحان والقرط وورق التوت ومغيب الأصل كالجزر الخ‏.‏ فتحصل أن المقاثي وهي ما تطعم بطناً بعد بطن ملحقة بالثمار وأن مغيب الأصل كالبصل والكراث والجزر فيه قولان‏.‏ وأن الجائحة توضع من العطش مطلقاً وإن كانت من غيره ففي الثمار والمقاثي لا يرجع بها إلا إذا بلغت الثلث، وفي البقول وهي التي يؤكل ما خرج منها فوق الأرض يرجع بها مطلقاً‏.‏

والقَصَبُ الحُلْوُ بِهِ قوْلانِ *** كَوَرَقِ التُّوتِ هُما سِيَّانِ

‏(‏والقصب الحلو به‏)‏ أي فيه ‏(‏قولان‏)‏ مذهب المدونة، وعليه اقتصر ‏(‏خ‏)‏ أنه لا جائحة فيه لأنه إنما يباع بعد بدو صلاحه بظهور الحلاوة فيه فهو بمنزلة ما تناهى طيبه وما أجيح بعد تناهي الطيب لا جائحة فيه كما يأتي‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ توضع الجائحة في القصب الحلو‏.‏ ابن يونس‏:‏ وهو القياس، وصحح في الشامل أنه كالبقول إذ قال‏:‏ وتوضع من بقول وقصب سكر أو غيره، وإن قلت على الأصح وثالثها كالثمار اه‏.‏ وانظر ما مراده بقوله‏:‏ أو غيره لأن غير القصب الحلو هو القصب الفارسي وهو لا جائحة فيه لأنه خشب ‏(‏كورق التوت‏)‏ التشبيه في القولين ‏(‏هما‏)‏ أي القولان ‏(‏سيان‏)‏ في القصب الحلو وورق التوت من غير ترجيح، وقد علمت أن المشهور منهما في القصب الحلو عدم الجائحة وأن المشهور منهما في ورق التوت هو الجائحة كما مر عن ‏(‏خ‏)‏‏.‏

تنبيه‏:‏

موت دود الحرير هو من جائحة ورقة كمن اكترى حماماً فلم يجد من يسكنه كم مرّ، ولما كانت الجائحة إنما توضع إذا حصلت قبل انتهاء الطيب كما قال ‏(‏خ‏)‏ إن تناهت الثمرة فلا جائحة الخ‏.‏ نبه الناظم على ذلك فقال‏:‏

وَكُلُّهَا البَائِعُ ضَامِنٌ لها *** إنْ كانَ ما أُجِيحَ قَبْلَ الانْتِهَا

‏(‏و‏)‏ الثمار ‏(‏كلها البائع ضامن لها وإن كان ما أجيح قبل الانتها‏)‏، فمفهومه إنه إذا أجيحت بعده فلا ضمان عليه وظاهره كظاهر ‏(‏خ‏)‏ أنها بانتهاء الطيب تخرج من ضمان البائع وإن لم يمض من الزمان ما يمكن قطعها فيه وهو أحد أقوال ثلاثة‏.‏ والثاني حتى يمضي ذلك، والثالث حتى يمضي ذلك ويمضي ما يجري العرف بالتأخير إليه، وأشار إلى هذا الخلاف ابن عرفة بقوله‏:‏ ففي كون ضمان الثمرة من مبتاعها بتناهي طيبها وإن لم يمض ما يمكنه فيه جذها أو بمضيها ثالثها بمضي ذلك وما يجري العرف بالتأخير إليه اه‏.‏ وهذا القول هو المعتمد وعليه اقتصر اللخمي فقال‏:‏ وكذلك العنب إن أجيح قبل أن تستكمل عسيلته كان ضمانه من البائع، وإن استكملها وكان بقاؤه ليأخذه على قدر حاجته لئلا يفسد عليه إن قطعه دفعة واحدة كان على البائع أيضاً إن كانت العادة بقاءه لمثل ذلك، وإن كانت العادة جذه حينئذ جميعاً فأخره ليأخذه على قدر حاجته كان من المشتري اه‏.‏ وعليه فإذا أخرها بعد انتهاء طيبها ومضى ما يمكن جذها فيه لجريان عرف الناس بالتأخير لبقاء النضارة والرطوبة فيأخذها بقدر حاجته، فالجائحة فيها وهي رواية سحنون وهو المذهب كما يفيده ‏(‏خ‏)‏ وغيره، ويفيده كلام المتيطي في نهايته لقوله‏:‏ إذا أجيحت بعد انتهاء طيبها وإمكان جذاذها بمضي مدة يمكنه جذها فيها قبل بلوغ الحد، الذي يعرف من التراخي في جذها فتجب الجائحة على قول مالك بالجائحة في البقول اه‏.‏ وأما إن كان تأخيره لشغل عرض له أو لسوق يرجو إنفاقها فلا جائحة كما في ‏(‏خ‏)‏ والبرزلي وغيرهما، فمفهوم الناظم فيه تفصيل بين أن تجتاح بعد انتهاء الطيب وبعد مضي ما جرت العادة بالتأخير إليه فلا ضمان على البائع وبين أن تجتاح قبل مضي ما جرت العادة بالتأخير إليه فالضمان منه، وأما منطوقه فمسلم لأن ما أجيح قبل انتهاء الطيب ضمانه من البائع اتفاقاً، ثم اعلم أن الثمار على قسمين‏:‏ ما شأنه أن ييبس ويدخر ويحبس أوله على آخره كالتمر والعنب والزيتون والجوز واللوز، فهذا إذا أجيح منه ثلث المكيلة فأكثر وضع على المشتري بنسبة ذلك فإن أجيح الثلث وضع عنه ثلث الثمن أو النصف فنصف الثمن وهكذا، ولا يلتفت هنا إلى القيمة اتفاقاً وإن أجيح أقل من الثلث فلا يوضع عنه شيء‏.‏ الثاني‏:‏ ما لا يحبس أوله على آخره كالمقاثي والورد والياسمين والتفاح والرمان والخوخ والتين والعنب في بعض البلدان ونحو ذلك مما تختلف أسواقه في أول مجناه ووسطه وآخره فإن كان الذاهب ثلث المكيلة أو وزنه أو عدده فإنه ينسب في ذلك قيمة ما أجيح إلى قيمة ما بقي سليماً وتعتبر قيمة المجاح في زمنه وقيمة غيره في زمنه أيضاً، فإذا أجيح بطن من مقثاة اشتريت بتسعة مثلاً فإنه يحفظ عدده، ثم إذا جنى بطنين وانقطعت فإنه يحفظ عددهما أيضاً وينظر حينئذ إلى البطن المجاح من البطنين السالمين، فإن كان المجاح ثلث عدد بطون المقثاة أو ثلث وزنها إن كانت تباع وزناً فيقال حينئذ‏:‏ ما قيمة البطن المجاح يوم الجائحة وما قيمة الثاني والثالث يوم جذاذهما‏؟‏ فإذا قيل قيمة الأول يوم الجائحة ثلاثة لغلائه في وقته، وقيمة الثاني في زمنه اثنان لرخصه عن الأول، وقيمة الثالث في زمنه أيضاً واحد فإنه يرجع عليه بنصف التسعة، وكذا إن كانت قيمة الثلث المجاح خمسة أسداس القيمة فإنه يرجع عليه بخمسة أسداس الثمن‏.‏ وهكذا‏.‏ وأما إن كان المجاح أقل من الثلث فإنه لا يوضع شيء هذا حكم ما له بطون، وكذا النوع الواحد الذي لا يحبس أوله على آخره كالعنب ونحوه في بعض البلدان لأنه قد تكون عادتهم جارية باستعجال بيع ما طاب منه وأن كل ما طاب منه شيء أتى به للسوق فيكون حكمه كذوي البطون‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ قال في النهاية‏:‏ فإن ادعى البائع أن المبتاع كان جذ قبل الجائحة كثيراً من الثمرة لو أضيف إلى ما بقي بعد الجائحة لم يبلغ المجاح منها الثلث فهنا يقال للمبتاع‏:‏ أثبت أن ما أدركته الجائحة في الثمرة ووقف الشهود عليه هو جميع ما ابتعته منها فإن قدر على ذلك دون مدفع للبائع فيه حكم له بالجائحة وإن عجز عن إثبات ما ادعاه من أنه لم يجذ من الثمرة شيئاً أو جذ منها شيئاً يسيراً حلف له البائع ولا تحط له الجائحة وله قلب اليمين عليه اه‏.‏ وعن ابن الحاج أن أرباب المعرفة يتحروا التحقيق فيما جنى المبتاع قبل ويقولون في شهادتهم أن الذي أذهبت الجائحة ثلث ثمر الجنة المبيعة مع ما أكل المبتاع قبل الجائحة، فإذا شهدوا هكذا وجب الحكم بالجائحة وإن قصروا في تخمين ما أكله المبتاع‏.‏ وإنما شهدوا أن الجائحة في ثلث ما بقي فهي شهادة ناقصة والواجب أن يحلف البائع أن الجائحة أقل من ثلث الباقي مع ما جنى المبتاع وتسقط الجائحة، فإن نكل حلف المبتاع أنها في الثلث وحكم بها ولو أجيحت الجنة كلها فاختلفا، فالبائع يدعي أن المبتاع جنى منها والمبتاع ينفي ذلك أو يدعي قليلاً، فإن القول للمبتاع في ذلك‏.‏ ولو اختلف المقومون هل المجاح الثلث أو أقل فيحتمل أن يقضي بأعدل البينتين أو يحكم ببينة الثلث لإيجابها حكماً، وهو الأظهر إلا أن يقال ينظر للأعدل مراعاة لمن يقول لا جائحة، ولأن الشهادة في عين واحدة كالشهادة على قدم الضرر وحدوثه اه‏.‏ وذكر ابن فتحون أن تقدير جائحة الثمرة يكون بوجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ تقديرهم ما تحمل هذه الثمرة على التوسط من حملها في السنين فيقال وهو كذا‏.‏ والثاني‏:‏ تقديرهم أن هذا الذي عاينوه مجاحاً ساقطاً في أصول الثمرة أو فاسداً في رؤوسها هو الثلث الذي قدروه من حملها على التوسط وأما لو قدروا هذا المجاح فيما بقي صحيحاً في رؤوس الثمرة بحسب ما أعطاهم ما عاينوه فيها من السالم أو المجاح لم يعمل هذا العقد شيئاً بمجرده وافتقر إلى تسليم البائع أن المبتاع لم يجذ من الثمرة شيئاً اه‏.‏ وقد تحصل من هذا كله أن الثمرة إذا أجيحت كلها فالقول للمبتاع أنه لم يجذ منها شيئاً بيمينه أو أنه جذ شيئاً قدره كذا، وأما إن أجيح بعضها وادعى البائع أن المبتاع قد جذ من الثمرة قبل الجائحة وأنكر المبتاع ذلك أو ادعى أنه جذ شيئاً يسيراً، فإن المبتاع يكلف بإثبات ذلك كما مرّ عن المتيطية، وكيفية إثباته إما بأن يشهد الشهود بأنهم عاينوا الثمرة وقت المبيع والساقط منها الآن والباقي في رؤوسها وأن ذلك كله هو القدر الذي رأوه أولاً‏.‏ وإن كان الساقط هو نصف ما كان وقت البيع والباقي في رؤوسها هو ربعه فيكون ما جناه المبتاع هو الربع الآخر، وإما بأن يتحروا التحقيق فيما جنى المبتاع حيث لم يعاينوها وقت البيع كما مرّ عن ابن الحاج‏.‏ وكيفية تحريه هو ما ذكره ابن فتحون فيقولون‏:‏ ما تحمله هذه الثمرة على التوسط من حملها في السنين قنطاراً أو وسقاً مثلاً، وقدر الباقي منه ربعه والساقط بالجائحة نصفه فيكون الربع الآخر جناه المبتاع، وهكذا إذا أقر المبتاع بأنه قد جنى منها أو نكل عن اليمين التي قلبها عليه البائع وإن ادعى أنه لا يدري قدر ما جنى أو غاب أو مات، فإن الشهود يتحرون التحقيق فيما جناه كما قال ابن الحاج‏.‏ وكيفية التحري لذلك هو ما تقدم عن ابن فتحون‏.‏ هذا ما ظهر لي في فهم هذه الأنقال والتوفيق بينها، وإنما أطلت في هذه المسألة لأنها كثيرة الوقوع‏.‏

الثاني‏:‏ لا بد من قطع الشهود بحصول السبب الذي أجيحت ولا يكفي قولهم‏:‏ ظهر لنا أنها أجيحت من العطش ونحوه إذ قد يكون إنما عطش من عدم إيصال الماء وقد قال في النهاية في صفة الشهادة بذلك ما نصه‏:‏ فمن علم نزول المطر أو البرد في الجهة المذكورة وأن الجائحة كانت بسببه قيده لسائله الخ‏.‏ وقال في العطش‏:‏ وإنها قحطت بذهاب سد نهرها الذي كانت تسقى منه أو بانهرار بئرها أو تغوير مائها وقد رأوأ ما ذكر من ذهاب السد وانهرار البئر وتغوير الماء الخ‏.‏